لماذا نطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية؟ 82


الحكمة من تشريع الحدود في الإسلام:
يمكن أن نوجز الحكمة من تشريع الحدود في الشريعة الإسلامية في الأمور التالية:
1) إقامة الحدود زجر للناس وردع لهم عن اقتراف الجرائم، وصيانة للمجتمع عن الفساد، وتطهير من الذنوب وليس في قطع يد السارق تعذيب وقسوة:
إن تطبيق عقوبة قطع يد السارق زجر مناسب للمجرم ولأمثاله في المجتمع. إن بعض المرتابين والمتشككين يصفون عقوبة القطع (أي في حدي السرقة والحرابة) بأنها لا تتفق مع المدنية والتقدم، ويرمونها بالعنف والغلظة وهؤلاء يركزون النظر على شدة العقوبة ويتناسون فظاعة الجريمة وآثارها الخطيرة على المجتمع، إنهم يتباكون على يد سارق أثيم تقطع، ولا تهولهم جريمة السرقة ومضاعفاتها الخطيرة وكم من جرائم ارتكبت في سبيل السرقة، كم من جرائم اعتداء على الأشخاص وإحداث عاهات جسام وقعت على الأبرياء بسبب السرقة، وكم من أموال اغتصبت وثروات سلبت وأناس تشردوا بسبب السطو على أموالهم ومصدر رزقهم، كل ذلك لا يخطر ببال المشفقين على أيد قليلة في سبيل أمن المجموع واستقراره، فيكون الهدف من إقامة الحدود توفير سلامة المجتمع وتحقيق أمنه واستقراره ومنع كل ما يهدد المصالح الكبرى للأمة[size=18](1) .[/size]

قال ابن القيم(رحمه الله):
من حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل ولا في الزنا الخصاء ولا في السرقة إعدام النفس وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب وتتقطع الأطماع عن التظالم والعدوان ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه فلا يطمع في استلاب غير حقه[size=18](2) [/size].

2) قطع القليل من أيدي اللصوص كفيل بالقضاء على السرقة:
ألا يتساءل هؤلاء الذين يعترضون على قطع يد السارق، أيهما أهون على المجتمع: أن تقطع يد أو يدان في كل عام، وتختفي السرقة،ولا تكاد تقطع يد بعد ذلك، ويعيش الناس مطمئنين على أموالهم وأنفسهم أم يحبس ويسجن ويحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة والمؤبدة في جريمة السرقة وحدها، في أغلب الدول، عشرات الآلاف كل عام، ثم لا تنقضي السرقة، بل تزداد وتتنوع وتستفحل، فما زلنا نسمع عن مصارف تسرق، وقطارات تنهب في وضح النهار، وخزائن تسلب، وجرائم على الأموال تصحبها جرائم على الأشخاص والأعراض لا تقع تحت حصر.

إن الجرائم الخطيرة لا يفلح في صدها ومقاومة أخطارها إلا عقوبات شديدة فعالة، فاسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوماً بالرخاوة والضعف.

والعقاب الناجح هو ذلك الذي ينتصر على الجريمة، وليس ذلك الذي تنتصر عليه الجريمة. ثم إن المشرعين الوضعيين لم يستغلظوا عقوبة الإعدام بالنسبة إلى بعض الجرائم الخطيرة، وما من شك في أن هذه العقوبة أشد من عقوبة القطع في السرقة والحرابة، فالعبرة إذن بالعقوبة المناسبة والفعالة في مقاومة الجريمة.

والحقيقة التي لا مراء فيها أن قطع يد سارق أو عدد محدود من اللصوص أهون كثيراً من ترك السرقة ترتع في المجتمع تروع الآمنين بما تفضي إليه من العديد من الجرائم والمنكرات(3) .

3) تطبيق الحدود أمان للمجتمع المسلم:
أثبت التاريخ أن المجتمع الإسلامي عندما طبق الحدود، عاش آمناً مطمئناً على أمواله وأعراضه ونظامه،حتى إن المجرم نفسه كان يسعى لإقامة الحد عليه، رغبة في تطهير نفسه، والتكفير عن ذنبه, وقد كانت الجزيرة العربية مرتعاً خصباً لأشنع جرائم السرقة وقطع الطريق، حتى على حجاج بيت الله الحرام رجالاً ونساء. عندما طبقت الدولة السعودية هذين الحدين استتب الأمن وانقطعت السرقات، وانهارت عصابات قطع الطريق، حتى أصبحت البلاد مضرب المثل المستغرب في القضاء على جريمتي السرقة وقطع الطريق، بالرغم من أن ما قطع من الأيدي منذ تطبيق الحدود لا يمثل إلا عدداً ضئيلاً جداً لا يوازي ما كان يقطعه قطاع الطريق من رقاب الأبرياء في هجمة واحدة. ويذكر أن عدد الأيدي التي قطعت في المملكة السعودية ستة عشر يداً خلال أربعة وعشرين عاماً[size=18](4) .[/size]

4) تطبيق الحدود رحمة عامة بالمجتمع، وتمنع المجرمين من الإقدام على الجريمة:
إن شدة عقوبة القطع في السرقة والحرابة، هي في الواقع رحمة بالمجتمع في مجموعه حتى يتخلص من شرور هاتين الجريمتين، وأخطارهما الوبيلة فإن التضرر محدود جداً من الأيدي والأرجل بالنسبة لأناس آثمين خارجين على حكم الله أهون كثيراً من ترك الجريمة تفتك بآلاف الأبرياء في أرواحهم وأبدانهم وثرواتهم. بل إن شدة العقوبة ذاتها رحمة بمن توسوس لهم أنفسهم بالإجرام حيث تمنعهم تلك الشدة من الإقدام على الجريمة، فتحول بينهم وبين التردي في الإجرام، فهي شدة في نطاق محدود، تفضي إلى رحمة واسعة شاملة بالنسبة إلى المجتمع الواسع العريض،كيف لا، وشريعة الإسلام هي شريعة الرحمة، أليس الله هو القائل سبحانه:

﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54].

روى أبو داود عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء))[size=18](5) .[/size]

والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بالشفقة على الحيوان. وشريعة هذا شأنها لا يمكن أن تحمل أحكامها في الحدود على محمل الشدة والقسوة، وإنما هي رحمة بالناس في مجموعهم[size=18](6) [/size].

5) تطبيق بعض الحدود أحب إلى كثير من العصاة من الحبس في السجون:
إن النظر إلى أثر الحدود على القلة التي تتعرض لها دون نظر إلى أثرها في المجتمع ككل، هو نظر مقلوب ومعكوس. ويكاد أن يكون نظراً مغرضاً ومريباً؛ لأن العبرة بمصلحة الناس في مجموعهم، وليست بمصلحة مجرمين ثبت جرمهم، ولم يدرأ عنهم الحد شبهة. ومع ذلك فلا يغرب عن البال أن الإسلام حريص كل الحرص على ألا يقام الحد، إلا حيث يتبين على وجه اليقين ثبوت ارتكاب الجرم، وذلك بتشدده في وسائل الإثبات. ثم إنه بعدئذ يدرأ الحد بالشبهات، كل هذا تفادياً لتوقيع الحدود إلا في حالات استثنائية محضة، ويكفي توقيعها في هذه الحالات حتى يتحقق أثرها الفعال في منع الجريمة وتضييق الخناق عليها إلى أقصى حد ممكن. بل إن تطبيق بعض الحدود كالجلد أحب إلى كثير من العصاة من الحبس في السجون مدة من الزمن، قلت أم كثرت. وأما الرجم فهو مجرد قتل بوسيلة زاجرة تمثل انتقام المجتمع ممن سطا على الأعراض [size=18](7).[/size]

تطبيق الحدود يتطلب أموراً أربعة هي:
1- الإيمان بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهاجاً.
2- تطبيق شريعة الله تعالى في جميع أحكامها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
3- الإدراك العقلي والتجريبي بفائدة الحدود.
4- الحرص على مصلحة الجماعة وتفضيلها

على مصلحة الفرد [size=18](8) [/size].

إقامة الحدود مسئولية الحاكم:
اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحدود إلا الحاكم أو من ينوب عنه.

روى الشيخان عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقام خصمه وكان أفقه منه فقال صدق اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل. فقال: إن ابني كان عسيفاً (أجيراً)(9)

في أهل هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم وإني سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله المائة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ويا أنيس اغد على امرأة هذا فسلها فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها.


لا شفاعة في الحدود إذا وصلت إلى الحاكم:
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فخطب قال يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد

وايْم الله لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت
لقطع محمد يدها (10).

روى أبو داود عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب(11) .

روى أبو داود عن صفوان بن أمية قال: كنت نائماً في المسجد علي خميصة لي ثمن ثلاثين درهماً فجاء رجل فاختلسها مني فأخذ الرجل فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع. قال فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً أنا أبيعه وأنسئه ثمنها قال: فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به(12) .

إقامة الحدود كفارة للمعاصي:
روى الشيخان عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدراً وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفي منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك (13).

الستر على العصاة:
حثنا نبينا صلى الله عليه وسلم على الستر على العصاة من المسلمين:
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا

نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر

على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر

مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة (14).

ويستحب أن يستر المسلم العاصي على نفسه.

روى الشيخان عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه.(15)

ختاماً:
أسأل اله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل مصر بلداً آمناً وسائر بلاد المسلمين، وأن يوفق ولاة أمورنا لما فيه خير البلاد،إنه ولي ذلك والقادر عليه. كما أسأله سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

(1) (الفقه الإسلامي للدكتور/ وهبة الزحيلي ج6 ص14: 15).

(2) (أعلام الموقعين لابن القيم ج2 ص114).
(3) (الفقه الإسلامي للدكتور، وهبة الزحيلي ج6 ص15: 16).
(4) (الفقه الإسلامي للدكتور/وهبة الزحيلي ج6 ص16).
(5) (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث: 4132).
(6) (الفقه الإسلامي للدكتور، وهبة الزحيلي ج6 ص16: 17).
(7) (الفقه الإسلامي للدكتور/وهبة الزحيلي ج6 ص14: 17).
(8) (الفقه الإسلامي للدكتور/وهبة الزحيلي ج6 ص14).
(9) (البخاري حديث 6859/مسلم حديث 1698).
(10) (البخاري حديث 3457/ مسلم حديث 1688).
(11) (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 3680).
(12) (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 2693).
(13) (البخاري حديث 18/ مسلم حديث 1709).
(14) (مسلم حديث 2699).
(15) (البخاري حديث 6069/مسلم حديث 2990).